بِقلم محمد الفرشيشي

شريط « عبد » من إخراج آية بالحاج رحومة

منذ اللحظة التي ألقى فيها قابيل بيده على أخيه هابيل، صار القتل أقدم خطيئة وأول جريمة سجّلها التاريخ الأنثروبولوجي للإنسان. ويروي القرآن القصة في سورة المائدة، حيث قُبِلَ قربانُ هابيل ولم يُقبَل قربانُ قابيل، فاشتعلت الغيرة في قلب هذا الأخير حتى قتل أخاه. لم يكن القتل هنا مجرد فعل فردي بل علامة تأسيسية: وذلك أنّ الإنسان، على خلاف سائر المخلوقات، يستطيع أن يوجّه عنفه لا من أجل البقاء الحيوي فحسب، بل بدافع الغيرة والهيمنة. 

ربما تكمن مفاتيح الفيلم في هذا التوازي بين الأنثروبولوجي والديني في الفيلم القصير « عبد«  للمخرجة آية بالحاج رحومة، حيث يبدأ العمل بمشهد وثائقي لأُسُود تنهش فرائسها في صورة صادمة، ثم ينقلنا مباشرة إلى مائدة أكل يجلس عندها رجلان تونسيان يلبسان مراويل عارية متسخة، يغرقان في افتراس رأس خروف مصلي و »مرقة هرقمة » وهي أكلات متصلّة تراثيا بمفهوم الفحولة . لكنّ الكاميرا لا تكتفي بتصوير الأكل بل تركّز على نظراتهما الشهوانية، وكأن فعل الافتراس يتجاوز الطعام إلى شهوة جنسية متأججة. يتحدثان عن فتاة كما لو كانت غنيمة، يتقاسمانها بالكلام مثلما يتقاسمان اللحم، في استعادة ضمنية لفعل قابيل حين لم يقبل بميزان العدالة فمدّ يده ليغتصب ما ليس له.

وراءهما، يظهر شاب ثالث في قميص أبيض غير عار وغير متسخ، يراقب المشهد باستياء وارتباك، وكأنّه يقف على الحدّ الفاصل بين البراءة والوحشية. وجوده هنا ليس بريئا: إنّه العين البشرية الثالثة، الرقيب الذي يرى كيف تتحول الشهوة إلى مشروع قتل، وكيف يتقاطع منطق الأكل مع منطق الجنس. في هذا السياق، يقطع الفيلم مشهده الواقعي بمشاهد وثائقية أخرى: لبؤة تغوي أسدا، أنثى عنكبوت تستدرج الذكر ثم تقتله وتمتص عصارة جسده. هكذا تصبح الأنثى، في المخيال السينمائي، قوة مزدوجة: باعثة على الحياة وسببًا للموت.

عند هذه النقطة، يقترب الفيلم من منطق الطقس كما يصفه الأنثروبولوجيون: فالشاب يدخل فضاء أبيض ، وتظهر فتاة بثوب أبيض أيضا تقوده إلى دائرة حجرية. لا ندري أهي استعارة لأحد طقوس التضحية، أم أنّ المرآة المغطاة التي تعرّيها الفتاة فجأة رمز للمواجهة مع الذات. هذه العناصر الطقسية تجعل من مسار الشاب انتقالا من مجرد مراقب إلى جلاّد، من الضحية إلى القاتل. ولعلّ رقصته حول الرجلين بعد أن كبّلهما، تعيد إلى الأذهان ما وصفه « رينيه جيرار » في كتابه » العنف والمقدّس«  حول وظيفة الطقوس في تحويل العنف الفردي إلى تضحية جماعية منظّمة، تحمي المجتمع من الانفجار. 

في الفلسفة، يتردد هذا السؤال في مقولة ميكيافيللي « الغاية تبرر الوسيلة » أمّا العلم التطوري فيذهب أبعد، حين يفسّر السلوك العدواني لا باعتباره خطيئة بل استراتيجية بقاء.

بهذا الشكل، يتحول  « Human » إلى مختبر رمزي يجمع بين الدين والعلم والأسطورة: الأسود التي تنهش اللحم هي انعكاس لصراع البقاء الحيواني، والعنكبوت التي تقتل زوجها صورة مكبرة للفتنة الجنسية التي تنقلب موتا، والدائرة الحجرية والخيط الأحمر استعارة للطقس البشري الذي يحاول تنظيم العنف. 

المشهد الأخير، هو أقرب لمحاولة رسم لوحة فنيّة لمحاولة إبهار المُشاهد. يجلس الشاب على الأريكة وتجلس الفتاة على أطرافها أمام جثتي الرجلين. يختلط دم  أحدهما ببقايا الأكل بينما يستلقي الآخر، مطعونا، على الأرض. وهذا ما يذكّرنا بأنّ السؤال لم يُحسَم: تقول الأخلاق الدينية أن القتلَ خسارةٌ مطلقة، وتقول الفلسفة النفعية أنه قد يكون ضرورة مشروعة، وأما العلم، فيراه امتدادا للطبيعة الحيوانية.  وبين هذه المواقف الثلاثة  التي يبدو تتبّعُ خيوطها المتشابكة أمرا مضنيا – وهو ما يبيّن أنّ الفلم موغل في الغموض والرسومات التاريخية القابلة للتأويلات الكبيرة  – يظلّ  المشاهد الإنسان عالقًا، يتأرجح بين المقدّس والغرائزي المدنّس أحيانا، بين رأس الخروف المصلي والعنكبوت التي تشرب  عصارة الذكر.

 وهنا يبدو أنّ الفلم في بحثه عن عمق أنثروبولوجي وفلسفي يجعل منه أكثر من مجرد تجربة هواة، وقع في رسم صورة رمزية معبّأة بالرموز والدلالات الغرائبية غير الواضحة داخل أحجيات السيناريو.