بِقلم أنيس قريعة

شريط « واد الطرابلسية » من إخراج وديع الكلاعي

آفاق الفن رحبة وأساليب التعبير الفني ثرية ومتنوعة. ولئن كان الاختيار من بينها قرارا « سياديا » يملكه المؤلف، فإنه يُملي بعد وقوعه تحمّلا لتبعات ذلك القرار، بدونه يُفرَغ اختيار أسلوب بعينه من معناه.

لا يتأخّر فيلم « واد الطرابلسية » (روائي قصير من إخراج وديع الكلاعي من نادي سينما الهواة بحمّام الأنف) في فرض طابعه الواقعي الصريح عبر تقديم شبه وثائقي للفضاء الفيلمي بنسق مُـتـشظّ وسريع من حيث المونتاج.

إلّا أنّ تلك اللقطات التقديمية نفسها كفيلة بوضع المشاهد في مأزق مبكّر يمنعه من النفاذ بعمق إلى بقية أطوار الفيلم الذي بدأ للتـوّ.

الواقعية « صناعة » محلّية

لا يتورّع المؤلّف منذ البداية عن النهل مباشرة من استيطيقا الفيلم البرازيلي « مدينة الربّ » وزرع مختلف عناصرها المُميّزة في نسيج الفيلم التونسي دون اقتصاد أو مراعاة لخصوصيات الفضاء الحقيقي: حُـومة « واد الطرابلسية » الواقعة بضاحية حمّام الأنف.

من تلك الخصوصيات تحديدا، تُصنع الواقعية السينمائية محلّيا ولا تُستورد مجزّأة ثم يتم تركيبها. يُحيلنا ذلك عنوة إلى استحضار موقع بلادنا على خارطة الصناعة المُعـولمة وإكراهات التقسيم الدولي للعمل. ولا يستهوينا بتاتا في الحقيقة أن تخضع السينما التونسية إلى نفس ذلك المنوال.

لا جدوى من الواقعية إن لازمت السّطح، أي الجانب الجمالي البحت، ولم يصاحبها تشخيص جدّي للواقع وتفكيك لديناميكيات تشكّله.

كيف تتعلّم البرتغالية بدون معلّم

كيف يمكننا ألاّ نتذكّر تلك الكتيّبات المُوجّهة للسوّاح غالبا والتي تبيع وهم التمكّن من لغة ما بمجرّد حفظ بعض المُفردات والجُـمَـل التي يتمّ حشرها في جداول مُـرتّبة ثـيَـميّا قبالة مرادفاتها في اللغة الأمّ. وعند المرور إلى الممارسة، من الوارد جدّا أن نثير لدى مُخاطَبينا الضّحك، وأحيانا الشفقة.  

في الأعمال الواقعية، تضع الهويّات المُتخيّلة حاجزا مبدئيا بين الواقع والمشاهد لأنها طريق سريعة نحو الاستلاب والهجانة كأن يتحوّل « واد الطرابلسية » إلى « سيدي دي جانيرو » على إيقاع « السامباني المرتاح ».

حْومنا ليست كالفافيلا على عكس ما تـدّعي الأغنية الشهيرة. وفي ما عدا بعض المظاهر السطحية، يمتلك السياق التونسي خصوصيات لا تشبه ما حدث أو ما يحدث في البرازيل ويطرح بالتالي رهانات مُغايرة. كما أنّ منسوب العنف في الفضاءات المعنيّة لا يُقارَن. تماثل السياقين يقبع فقط في المُخيّلة الجَـمْعـيّة لشريحة اجتماعية-عُـمُـرية مُـعـنَّـفة بشكل مُمَنهج، قبل أن تعيد بدورها وعلى طريقتها إنتاج العنف المُسلّط عليها. مُـخـيّـلـةٌ تـفرز تمثّلا مُحرّفا للهويّات الفردية وتتغذّى بصريا على صنف بعينه من الكليبات وعلى بعض أهازيج الفيراج في لحظات فورة الحشود. تلك اللحظات التي تنتهي في كثير من الأحيان في مراكز البوليس يرافقها، كما حدث مع الشخصية الرئيسية للفيلم، تساؤل حائر وصادق ومشفوع بالبكاء: « ما الذي أوصلني إلى هنا ؟ ».