بِقلم أنيس قريعة

شريط « الزيتون يشهد » من إخراج عمر بالواعر

في ديكور طبيعي بسيط، تدور وقائع فيلم « الزيتون يشهد » (روائي قصير من إخراج عمر بالواعر من نادي سينما الهواة بحمام الأغزاز). وقائعٌ نشهد بدورنا البعض منها عبر التجسيد، والبعض الآخر عبر الإحالة.

سماءٌ وزيتونٌ وتراب. طبقاتٌ ثلاث يتكوّن منها ذلك الديكور. لكنها تمثّل أيضا بصفة عرضية أنطولوجيا الزّمن.  

1.السّـماء

السماء، حيث ترتسم الآفاق، هي فضاء للممكن، تشرئب لها الأعناق لأن فيها دعوةً دائمة للتطلّع، لقادم الأشياء، للمستقبل. في فيلم « الزيتون يشهد »، السماء هي فضاء ثانوي بامتياز يتعمّد اختيارُ الكادر تهميشَه غالبا، وحين يُصادف أن نراها فهي تظهر من خلف الشخصيات النابشة في الأرض عكس محور تطلعاتهم.

2.الـزّيتـون

الزيتون في الفضاء الفيلمي هو ما يشغل الأحياء في حاضرهم. معاش الناس وزينة الأرض. ينطلق الفيلم بالفعل من عملية زرع روتينية لشجرة زيتون تقوم بها الشخصية الرئيسية بملل وتكاسل واضحين، قبل أن تـُـفـتَن هذه الأخيرة بهديّة مُحتملة قادمة من زمن آخر، زمن غابر.

3.الـتـراب

تحت التراب يُدفن الموتى وكل من/ما لم يعد ينتمي للزمن الحاضر. تحت التراب يقبع الماضي حاملا في طياته ما لم ينكشف من الأسرار. وما أكثرها.

يبقى الماضي في حكم الأموات ما لم ننبش في التراب. إن ارتقى فوق الأرض، فإنه يعود لصفوف الأحياء ويسترجع قدرتهم على الإسعاد… أو على الإيذاء. في إيحاء مبكّر وخاطف، يذكّرنا المشهد الافتتاحي بذلك الاحتمال عبر إقحام لقطة مُـقرّبة تصوّر استفاقة النار من تحت الرّماد.

قدرة الماضي على الإيذاء تحديدا تُلهم مخيّلات الشعوب، فيسارع البعض للاحتماء خلف ضروب الغيبيات وتُبتكَر الطقوس للتعوّذ من القادم… القادم من الماضي في هذه الحالة. يبالغ الإنسان في العموم من التحوط من قوى الغيب لكنّه ينسى بسذاجة في كل مرّة أن « أخاه » الإنسان هو حتما أقدر الكائنات على الإيذاء حين ينتابه الجشع.

بينما كان ابنا العم يتناحران فوق أرض يشتركان في ملكيتها، عاد جشع المُستعمر القديم -وما حشد له من العدّة والذخيرة في ذلك الزمن- إلى السطح كأنه لعنة أبدية، لينفجر في وجهيهما ويعصف بحاضرهما ومستقبلهما معًا. وتلك بلا شك إحدى مخاطر استحضار الماضي.

في الأخير، الهديّة كانت مسمومة… أو بالأحرى ملغومة. أما الإهداء فقد حمل توقيع المستعمر ومكان المجزرة وتاريخها: حمام الأغزاز، 25 جانفي 1952.

لا يدعو الفيلم للكفّ عن الحفر في الماضي مُطلقا، لكنّه يحث على الكفّ عن الجهل بهدف تقليل المخاطر. لتحقيق ذلك، يتّخذ خطابه في النهاية نبرة توعوية مباشرة، مدعومة بإدخال بعض العناصر التحريكية البسيطة على الصورة. يُـفسح الكفّ عن الجهل مجالا آمنا لاستيعاب ما يأتي من الماضي مهما كان مُوجعا لأنه ينير البصائر مُسبقا بشأن علاقته مع ما يحدث في الزمن الحاضر. ما يحدث الآن في غزّة على سبيل المثال. غزّة البعيدة جغرافيا والقريبة ثقافيا بحكم تشابه المأساة والزيتون .. الزيتون الذي ما زال يشهد.