بِقلم عبد الله جرادي
شريط « إرث » من إخراج يوسف حندوس
السينما هي النحت في الزمن، هكذا يقول تاركوفسكي في عنوان كتابه الذي تذكرته وأنا أشاهد فيلم « إرث« ليوسف حندوس، مشروع تخرجه من المعهد العالي لفنون الملتيميديا الذي أُعِدَّ سنة 2025.
فيلم يشبه تاركوفسكي، على الأقل هذا ما قد نراه في الوهلة الأولى. الفيلم يتحرك بنسق بطيء، بحركة وئيدة، مشاهد متناظرة طويلة، وهذا حال المشهد الأول بعد العودة: لقاء بارد دون أحضان وكلام، دون أحاسيس وابتسامات. جلس الروسي لينقل معلومة واحدة: « أريد إرثي ». ولم يكن شديد التعبير أو غير ذلك، بل كان مباشرًا بسيطًا ميتًا. وطبعًا، قوبلت بساطته بالعنف وتوجيه أصابع الرفض والاتهام. بعد كل تلك الفترة من التيه في الحياة، يصبح الإنسان مليئًا بالأحاسيس، أحاسيس تفيض في القلب فتنعدم في التعابير، أي لا نُعبّر عن أيٍّ منها.
اللامبالاة الشعورية وغياب التعبير يترجمان إلى حركات تُترجَم؛ بُرودُ أندري في Nostalgia يترجَم إلى صوفيته، فهل يُترجَم بُرودُ الروسي؟
أعتقد أن تاركوفسكي سيبتسم إذا رأى تسليم الذات الذي يحمله العمل، ما نراه من تسليم في مشهد في ليلة باردة، بيت قديم، هدوء وحميمية عالية، صديقان يتناقشان في وجودهما، في تباين في الفكر وحوار يكاد يُعتبر صامتًا. أشرقت عناصر مشبعة بمعانٍ روحية ووجودية معمقة.
أعتقد أن تاركوفسكي كان سيبتسم من ذاتية المشهد، وهل لنا أن ننسى أنه يعتبر أن السينما أصدق وسائل التعبير؟ لكن دون ذلك المشهد، في معظم المشاهد الأخرى التي تقودنا للنهاية، نصطدم بما هو مختلف؛ صور جميلة، متقنة، لكنّ جمالها أقرب إلى صمت اللوحات، جمال صوريّ أكثر منه روحيّ. في معظم المشاهد أشعر أنني لا أجد إلا الصورة، ولا يبقى لي سوى أن أحاول استنطاقها في غياب أي روح تبيّنت لي .
هكذا، في المنحى التحليلي، بدا لي أن التوجه في هذا العمل مائل نحو الشكل لا الجوهر، نحو المرئيّ لا اللامرئيّ. و لنضرب مثلا مشهد النهاية، وهو مشهد أخّاذ، نزل على القصة كالنار على الهشيم. الروسي، بعد احتراق بيته في الطبيعة، يمشي. فقط يمشي، في طبيعة لا أعي محلها أو علاقتها مع الروسي أو مع القصة، مع صمت مستفز، صمت أحسست أنه نوع من الاحتقار، عندها وجدت نفسي أتساءل: هل ما نراه هنا ترجمة للمشاعر الدفينة التي لم تُبح بها الشخصيات، أم أنه لوحة جميلة فاقدة للمعنى، صورة متقنة بلا روح؟
شخصيا، لا أحب الكتب التي تحمل عبارات منمّقة، و خاصة إذا ضعفت المعاني فلم تصل إلى عمق الكلمات. تاركوفسكي كان سيرى الفيلم جميلا، و لكني لا أعلم إن كان سيحبّه.

