بِقلم محمد الفرشيشي
شريط « خيط وحيط » من إخراج فاطمة برك الله
يُعتبر الفيلم الروائي القصير « خيط وحيط » لفاطمة برك الله تجربة سينمائية تونسية حديثة، إذ يقدّم رؤية بصرية وفكرية تحاول إعادة مساءلة علاقتنا بالواقع من خلال توظيف الرمزية باعتبارها أداة جمالية ودلالية في الآن نفسه. فلا يبدو العمل مجرّد حكاية تُروى فقط، بل يتجلى كفضاء للتأويل، تتشابك فيه الرموز والمشاهد والإيحاءات والإشارات البصرية والصوتية، فيتجاوز بذلك حدود السرد المباشر ليغدو نصًّا بصريًا يفتح مساحات متعددة للتأويل والنقد.
اللافت في « حيط وخيط » أنّه يبدو منخرطا في الواقعية المباشرة بالغوص والحديث عن ظاهرة منتشرة بين الناس بنفس ضبابي كبير. وهنا يتمّ تشييد عالم بصري يتأسس على العلامات الرمزية التي تُعيد بناء الواقع في هيئة مجازية، وقد يبدو ذلك عائدا لأهميّة الموضوع المطروح داخل الأوساط الشعبية.
الصورة والرمز: قراءة في التشكيل البصري
اختيار المخرجة للفتاة بالفستان الأحمر على ركح يلفه السواد يكشف عن وعي جمالي يزاوج بين الإيحاءات البصرية والدلالات الرمزية. اللون الأحمر هنا ليس مجرد عنصر زخرفي، بل شحنة مزدوجة تجمع بين الأنوثة والتحرر من جهة، والعنف والخوف من جهة أخرى، وهو ما يخلق توترًا بصريًا يعكس الصراع الداخلي للشخصية. غير أن إنقاذها عبر حضور « الفارس الأبيض » يظل حلًا دراميًا سطحيًا، إذ يضعف استقلالية البطلة ويحوّل لحظة التمرّد الفردي إلى انتظار لنجدة خارجية.
أما الحائط، الذي يتكرر حضوره في لقطات متعدّدة، فليس مجرّدَ عنصر ديكوري بل هو حامل للرمزية الكامنة في العزلة والانفصال. يعكس الجدارُ سلطةَ المجتمع والقيود التي تكبّل الفرد والأسوار التي تُشيّدها السلطة أو العادات. ففي أحد المشاهد، يتحول الحائط إلى رمز مزدوج: حاجز يحدّد مساحة الفعل وحامل للرموز البصرية. قناع غريب في الأعلى يوحي بتهديد خفي، فيما تشير العبارة المكتوبة بوضوح تام على بوستر حائطي « THE WITCH OF THE WEST IS DEAD » إلى موت سلطة قديمة وإمكانية التحرر من القيود. وهي بالأساس عنوان رواية يابانية تتناول قصّة فتاة ترسَل للعيش مع جدتها في الريف الإنجليزي حيث تتعامل مع مشاعر الحزن و الخسارة وتتعرّض لمواضيع النضج والهوية. ينسجم هذا المشهد مع الرمزية العامة للفيلم، حيث يبرز التوتر بين القمع والحرية، ويهيئ فضاءً لصراع الشخصية الداخلي قبل دخولها إلى الرقصة التعبيرية في مشهد الركح السابق.
الرمزية في الصوت والموسيقى
لم تقتصر الرمزية في الفيلم على رؤية المشاهد فقط، بل امتدّت إلى الصوت والموسيقى. فالصوت الخارجي – بما فيه من أهازيج بعيدة أو صدى خطوات أو أصوات عميقة كما لاحظنا في أكثر من مرّة وخاصة في مشهد الحلم المزعج مع الفتاة – يوحي بالزمن العابر وبالذاكرة المتشظية وكذلك بالرغبة الكبيرة التي تريد التحرّر داخل الحلم و تحسّ بالعجز التام في اليقظة. و يبرز ذلك عند المشهد الذي لا تستطيع فيه الفتاة تفسير سبب عدم القدرة على تقبيل حبيبها الذي قام بإيصالها لبيتها .
أما الموسيقى فقد وُظِّفت بحذر، بحيث لا تأتي مرافقة للصورة فحسب، بل كخطاب رمزي موازٍ. تشير الإيقاعات البطيئة ذات النبرة الحزينة إلى بطء الزمن، إلى ثقل القيود، وإلى صعوبة التحرّر. وعندما ترتفع وتيرة الموسيقى « Crazy He Calls Me » فجأة، فهي تعكس انفجارًا داخليًا أو رغبة دفينة في التمرد كما حصل مع أغنية.
التي جاءت كخلفية موسيقية فعّالة لأنها تحمل نبرة حنين وحزن داخلي تعكس الصراع العاطفي للشخصية. وتتحدث كلمات الأغنية عن امرأة تُظهِر استعدادها لفعل أيّ شيء من أجل حبها حتى وإن بدا ذلك مجنونا.

