بِقلم أنيس قريعة

شريط « لآخر نفس » من إخراج غسان الجربي

في مراحل الانحطاط والتقهقر الحضاري، يشيع التسول بالإرث والأثر وإن كان من وراء قناع سياحي ظريف. تسوّلٌ يتجاوز الجانب المادي البحت وينشُـد اعترافا من الآخرين. كما تتحول متاحف البلد إلى معارض بائسة لبراهين العراقة والمجد التي يُضعف حجّيتها سوءُ التوظيب وانعدامُ خطاب متجذّر يرافق المعروض.

يفتح فيلم « لآخر نفس » (روائي قصير من إخراج غسان الجربي من المدرسة العليا للسمعي البصري والسينما بقمرت) نافذة سينمائية مباشرة على هذا الوضع المتردي. وياله من رهان. يحشد المؤلف له ترسانة من العناصر الفيلمية لا يُستهان بها: « نذيـر » شخصية رئيسية مهجورة تلتقط أنفاسها بصعوبة بالغة في وسط اجتماعي تـنضح سلوكياته اليومية بمظاهر الانحطاط، ومتحف ثري المضمون رديء الشكل والإخراج حيث يشتغل نذير بضمير حيّ لكن دون جدارة أو كفاءة، وتمثّلٌ لقطاع حيوي بحجم  قطاع الصحة يشي سَيْرُه بانعدام قيمة الحياة الإنسانية في هذه الربوع، كأقصى مؤشر ممكن على استفحال الانحطاط الحضاري.

يمكن، على ضوء كل تلك العناصر مجتمعة، الاطمئنان لوجود نوايا واعدة وراء هذا العمل. مع ذلك، وبغض النظر عن المسائل التقنية البحتة، يبقى السيناريو – في الشكل الروائي على الأقل- الوثيقة المرجعية الرئيسية التي تضمن جودة الفيلم عموما وبالتالي تحقّـق نوايا المؤلف فعليا على الشاشة مهما كانت طيبة بالأساس.

على هذا الصعيد تحديدا، يتجلّى من جديد حجم الرهان الذي لا يمكن في الحقيقة مواجهته إلاّ بالاستناد إلى سيناريو مُحكم الحبكة، ثري الشخصيات ومُطعّم بشتى وسائل الشدّ والعمق الدراميين. أمّا سيناريو « لآخر نفس »، ورغم توفّر مكونات فيلمية على قدر من الأهمية، يبدو وكأنه لم يبلغ في وقت التصوير مرحلة متقدمة من النضج، كافية لتوظيف عناصر البداية في بناء رؤية إخراجية مؤثرة في المتلقي.

حسب التسلسل المُتوخّى في سرد الأحداث، يمثّل المشهدان اللذان تمّ تصويرهما داخل المتحف لحظتين مفصليتين في تشكّل إدراك المشاهد للإشكالية المحورية للفيلم. أطنب المشهد الأول في السخرية فلامس الكوميديا السوداء في موضع كان يُستحسن فيه نثر الملح على الجرح بلا شفقة ودون مداراة لألم الموقف بضحكة عابرة ويسيرة الانتزاع. أمأ المشهد الثاني، فقد هرول إلى أحضان التراجيديا رغبة في تخلّص سريع من مأزق التساؤل عن القادم، وذلك حين بلغت الأزمة ذروتها وآن الأوان للإشارة إلى منفذ ما على درب استعادة المُنجز الحضاري.

بين نقيضي الكوميديا والتراجيديا كأداتين دراميتين مشروعتين بلا شكّ في سياقات ملائمة، قد تكون هناك طريق ثالثة أنسب للتفكير سينمائيا في المسألة الحضارية. طريقٌ كتلك التي قال حنّبعل أنه يصنعها حين لا يجد واحدة، فبوأّته مقولتُه مكانا تحت الضوء في متاحف البلاد.