بقلم محمد الفرشيشي

شريط « حجرة ـ ورقة ـ مقص » من إخراج شريفة عودة

كان يا ما كان، أو لعلّه لم يكن، شاب وشابّة، يجلسان على عتبة الحياة كما لو أنّهما شخصيتان خرجتا من كتاب قديم. يحبّان بعضهما ببساطة، بساطة تنتهي بطلب زواج سريع وموافقة أسرع. حَسْبُه عودٌ يابس من ركام الأمل يعقده على بنصرها فيضغط على محرّك الفرح لديها … لكن… يبدو وكأنّ الورقة وحدها لا تكفي لتكريس الحبّ. فالحبّ في هذا البلد ليس طقسًا طبيعيًا، بل هو عبور إجباري عبر دهاليز. هكذا يدخلان مبنى ضخمًا يشبه مبنى وزارة الحقيقة في رواية « 4891 » لجورج أورويل أو القلعة في رواية فرانز كافكا، حيث ينتظرُهما عدلُ الاشهاد، وحيث لا يُمكن للفرح أن يكتمل دون ثلاثة شهود، وكأنّ الحبّ وحده لا يشهد لنفسه. يظهر الشهود في ثلاث هيئات: امرأة حامل تحمل وعد الولادة، رجل مجنون يجرّ خلفه عَبَثَه، وجزّار يجلب معه بقايا كواليس دموية.

 من هنا يبدأ الانزلاق نحو متاهة عجيبة لا تقل غرابة عن بلاد آليس، لكنّها نسخة تونسية أكثر قسوة وسخرية.

شريفة بن عودة في فيلمها القصير « حجرة – ورقة – مقص » لا تكتفي بأن تقدّم قصة هواة، بل تكتب كابوسًا طفوليًا بلغة صامتة، مستعيدة روح شارلي شابلن. ليس الصمت هنا غيابًا للكلام، بل هو استدعاء للغة أخرى، لغة الجسد والإيماءة والابتسامة الماكرة. 

تتتابع المشاهد وكأنّها كوابيس متتالية. موظفة تطلب من البطل أن يمرّ عبر جسدها كي تمنحه الختم، وكأنّ الإدارة صارت جسدًا يُساوم. وفي إدارة أخرى نجد ثلاث موظفات منهمكات في التهام المعكرونة بوحشية، بينما تعمل آلة تمزيق الأوراق بلا توقف، تقطّع الوثائق إلى خيوط طويلة تتحوّل بدورها إلى سباغيتي تُطبخُ وتُلتهم. الورق الذي وُجد ليُوثّق الحبّ يصبح غذاءً لدولة جائعة، تُحوِّل الحياة الخاصة إلى طبق إداري. هنا تبلغ الفنتازيا ذروتها: لم تعد الإدارة مكانًا لتنظيم الحياة بل مسرحًا عبثيًا يأكل ذاته.

يبدو الشابّ المحارب في الفيلم كأنه نسخة آليس تونسية، لكنها لا تواجه الأرنب الأبيض ولا قبّعة المجانين، بل تواجه ما اسماه فرانز كافكا البيروقراطية التي تمثّل رمزًا للسلطة القمعية التي « لا ترحم » ، موظفات جائعات، شهود بلا معنى، وآلات تلتهم الوثائق. 

لعبة « حجرة – ورقة – مقص » التي يحمل الفيلم عنوانها تُصبح استعارة قاسية: الحجر رمز السلطة الغاشمة، الورقة رمز البيروقراطية المهيمنة، والمقص رمز الرقابة والقطع والمنع. كل حركة في هذه اللعبة تؤدي إلى خسارة، ولا أحد يخرج منتصرًا. الحبّ يخسر أمام الورق، الورق يخسر أمام المقص، والإنسان يخسر أمام الدولة.

وراء هذه الكوميديا السوداء يختبئ نقد اجتماعي عميق. يُفترض أن يكونالزواج في المخيال التونسي عَقْدَ حبّ وبداية حياة مشتركة، لكن الفيلم يكشف أنّه يتحوّل إلى معركة إدارية، معركة يخوضها الفرد أعزلا أمام مؤسسة ضخمة متغوّلة. الإدارة لا تنظّم الحياة، بل تبتلعها كما تبتلع المعكرونة، تجعلها عجينة بين فكيها. المواطن، مثل الشاب والشابّة، يظلّ صغيرًا، عاجزًا، يبحث عن الختم والموافقة والشرعية من سلطة لا ترى فيه سوى ورقة إضافية في أرشيف متضخم. بل يتواصل الرعب بتغوّل الشيطا-انسان الذي يُظهر ما لا يُبطن. وهو ما صوّره الفلم في شخصية رئيس  الموظفين الذي يمثّل دور المحقّق الجيّد في مقابل المحقق الشرير الغاضب المخيف. ولكننا في النهاية أمام نفس خنازير جورج أورويل: رشوة ومحسوبية يجسّدها مشهد الشيطان المرتشي الذي يبدو أنّه قد نال جزاءه في فكاهة منبعها تافه، حيث تتم معالجة ما يسمى بالنهايات السعيدة في استديوهات تعيش حالة الجمالية داخل المشهد، متجاوزة دوْر السينما المقاوم بعيدا عن الابتذال الذي يحاول دائما إعادة فردة حذاء سندريلا حتى نعود لبيوتنا فرحين مسرورين.

 قد يضحك المشاهد من المواقف، لكن سرعان ما تتحوّل  الضحكة إلى مرارة. تكشف الضحكة أنّنا – جميعًا – نلعب اللعبة نفسها: نحاول أن نحيا بالحبّ، لكننا نصطدم دائمًا بالحجر والورقة والمقص. في النهاية، آليس لم تسقط في بلاد العجائب، بل في بلاد الإدارات، وما تزال تبحث عن وعد البلدية لها بتوفير إنترنت مجاني.